النمو الديموغرافي

النمو الديموغرافي

إن أفضل طريقة لتوضيح الانخفاض المتوقع في معدل نمو السكان

العالي هو الرجوع إلى ما يعرف باسم »التحويل الديموجرافي « والذي لا

نراه نظرية جامدة ملزمة بل وصفاً لخبرة تاريخية مليئة بالاستثناءات

والشذوذ والاتجاهات العكسية. وتصور هذه النظرية في إطار الأهداف

المرسومة لنا هنا التحول الذي طرأ والذي سيطرأ مستقبلا على معدلات

النمو السكاني خلال المراحل المتعاقبة ابتداء من مجتمع ما قبل الصناعة

حتى مجتمع ما بعد التصنيع.

لقد كانت معدلات الولادة السنوية في مرحلة ما قبل التصنيع تقارب 40

في الألف ويحدد هذا المعدل أساساً أقصى عدد للأطفال الذين يمكن

ولادتهم في ظل الظروف المحلية السائدة. وكانت هناك بلا ريب تذبذبات

واسعة المدى في عدد السكان المحليين حيث إن معدلات الوفاة كانت تتأثر

بفعل الكوارث التي تقع بين الحين والأخر (مثل الحروب واﻟﻤﺠاعات والأوبئة

والفيضانات وغير ذلك من أحداث طبيعية) ولكن هذا كله كان في نهاية

الأمر يواكب معدلات الولادة ويسمح فقط عدل بطيء وضئيل جدا للنمو السكاني.

وبعد مرحلة التصنيع بلغت عملية النمو الاقتصادي والتكنولوجي أقصى

قوة لها مما أدى إلى زيادة الإنتاج وتنظيم عملية توزيع الطعام ومن ثم

نقصت اﻟﻤﺠاعات وأمراض سوء التغذية كما أن اﻟﻤﺠتمعات خصصت موارد

كثيرة من أجل تطوير وضمان الصحة العامة والأمان للناس وانخفضت

معدلات الوفاة نتيجة لذلك-مع بقاء معدلات الولادة عالية-وأدى هذا إلى

زيادة سريعة للسكان. ومع تقدم الصناعة في البلدان المتطورة بدأت مرحلة

ثالثة حين شرع الآباء في إنجاب عدد أقل من الأطفال وساعد على ذلك

انخفاض قيمة الأطفال كرأسمال أو كرصيد اقتصادي للآباء بالإضافة إلى

ارتفاع تكلفة تربية الأطفال وتضاؤل الضغوط الدينية والاجتماعية التي

تحث على تكوين عائلات كبيرة. وكانت النتيجة نقص معدل النمو السكاني

مع نقص معدل الوفيات. وأخيراً فإننا مع انتقالنا إلى مرحلتي ما فوق وما

بعد التصنيع تصل معدلات الولادة والوفيات إلى أدنى نسبة لها وتتماثلان

ومن ثم نعود ثانية إلى حالة التوازن السكاني والتي تشبه الوضع في مرحلة

ما قبل التصنيع. بيد أننا لا نزال نتوقع حدوث تذبذبات قصيرة المدى في

معدلات الولادة تدفع إليها بعض الأحداث العابرة مثل الحروب وحالات

الكساد أو الرخاء غير العادي.

و يعتقد الآن كثيرون من علماء الاقتصاد والسكان أن هذا التحول

سيحدث مستقبلا أو أنه بدأ بالفعل في البلدان الأقل تقدماً مثل ما حدث

في كل بلدان العالم المتقدم وأن هذه العملية بدأت تزداد سرعتها. و يبدو

أن الشواهد التاريخية تعزز الرأي القائل بأن التحول الديموجرافي بات

حقيقة وشيكة. لقد كان الوقت اللازم للتحول إلى أدنى معدلات للنمو في

غرب أوروبا وأمريكا الشمالية 150 عاماً ( 1775 - 1925 ) وللاتحاد السوفيتي

40 عاما ( 1910 - 1950 ) ولليابان 25 عاما فقط ( 1935 - 1960 ). وتكشف أحدث

التقديرات عن انخفاض ملحوظ في معدلات الولادة خلال الستينات في

15 دولة من الدول النامية وانخفاض محتمل في ثماني دول أخرى. ونظرا

لأن هذه الأرقام تمثل كل الأقطار الكبرى في العالم ماعدا بلدان إفريقيا

الواقعة جنوب الصحراء فان من الممكن أن تكون الستينات بداية لانخفاض

ملحوظ على النطاق العالي في معدل الخصوبة في البلدان النامية.

وإذا كان كل ما أسلفناه لا يتضمن ما يوحي بحتمية الانخفاض المستمر

لمعدلات نمو السكان العالي فإن تصورنا »الخالي من المفاجأة « يقضي بأن

سكان العالم على حافة الانتقال إلى نقطة الانحناء في منحنى النمو وأن

تعدادهم خلال مائتي عام سيصل إلى 15 بليون نسمة تقريباً مع زيادة أو

نقص اثنين . يوضح احتمال ارتفاع مستوى المعيشة في عالم المستقبل مع

زيادة عدد السكان- يمكن أن نتوقع زيادة السكان إلى 30 بليونا في ضوء

التصور المتمركز على الأرض. وسوف نعرض الآن تفسيرنا للأسباب التي

من أجلها نتوقع أن تحقق أغلب الدول النامية نموا اقتصاديا سريعاً وراسخاً.